سعادة الإنسان بعلو همته – - لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . فجوة وخلل : معرفة الحق وعدم العمل وفقه : |
أيها الإخوة الكرام ، هناك حالة تكثر الشكوى منها ؛ أن الإنسان يعرف الحقيقة ، لكن لا يشعر بقوة في العمل وفقه ، هناك فجوة ، مع أنّ الحق واضح ، الأمور ناصعة ، الحق أبلج ، الحلال بين ، الحرام بين ، و مع ذلك فهناك تقصير في العمل وفق هذه القناعات ، أين الخلل ؟ في الإرادة ، هناك إنسان ضال ما عرف الحقيقة ، إذاً لم يعمل بها ، لكن المغضوب عليه هو الذي عرف الحقيقة ، و عمل بخلافها . إذاً : سلسلة هذه الدروس إن شاء الله تحت عنوان صلاح الأمة بعلو الهمة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( علو الهمة من الإيمان )) . [ورد في الأثر ] الواقع العملي للطالب الذي يريد النجاح فقط لا ينجح ، أما الذي يريد التفوق ينجح . والشاهد الآخر : > [ سورة الملك : 2] الامتحان لا من أجل فرز الناجحين عن الراسبين ، لا ، الامتحان من أجل تقييم الناجحين وفق درجات ، الأصل أن تنجح ، الأصل أن تكون لك همة عالية ، لذلك هذا الكلام ورد في قوله تعالى :
[ سورة الواقعة ] مقام العبد في الآخرة بحسب واقعه في الدنيا : |
السابقون في الدنيا إلى الخيرات سبقوا في الآخرة إلى الجنات ، الآخرة مكانك فيها ، أو مقامك فيها بحسب واقعك في الدنيا ، وقالوا :
[ سورة الزمر : 74] لولا أن الإنسان جاء إلى الدنيا ، و دعي إلى معرفة الله ، وهناك عبادات ، هناك ضوابط ، هناك عبادات تعاملية ، لولا أن الإنسان في الدنيا استطاع أن يتعرف إلى الله ، وأن يتقرب إليه لما كان له مكان في الآخرة ، لذلك الآخرة تُقيم بواقعك في الدنيا ، والسابقون السابقون في الدنيا أولئك المقربون ، وهناك فرق كبير بين المتقرب إلى الله والمقرَّب من الله ، المتقرب بسعيه ، أما المقرب فبفضل الله ، وهذا فرق دقيق . لذلك في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، والدليل :
[ سورة محمد : 6] في الدنيا ، لولا أنهم ذاقوا طعمها لما عرفوا عظمة هذه الجنة ، لذلك يقول بعض العارفين : " إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً " . أقول : إنْ كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب ، أي في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة . قوة الإنسان علمية وعملية : |
1 ـ السعادة في استكمال القوتين العلمية والعملية : أيها الإخوة الكرام ، الإنسان عنده قوتان قوة علمية نظرية ، وقوة عملية إرادية ، وسعادته التامة موقوف على استكمال قوتيه العلمية والعملية ، وكلامها شرط لازم غير كاف . هناك قوة علمية نظرية ، وهناك قوة عملية تطبيقية ، إذا اكتفى الإنسان بواحدة لا يفلح ، لماذا ؟ 2 – طريق استكمال القوة العلمية : استكمال القوة العلمية إنما يكون : 1 ـ بمعرفة فاطره ، وبارئه . 2 ـ ومعرفة أسمائه وصفاته . 3 ـ ومعرفة الطريق التي توصل إليه . 4 ـ ومعرفة آفاتها . 5 ـ ومعرفة نفسه ، ومعرفة عيوبها . فبهذه المعارف الخمس يحصل للإنسان كمال قوته العلمية ، فينبغي أن تعرف الله ، وأن تعرف أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى ، وينبغي أن تعرف الطريق إليه ، و ينبغي أن تعرف الصوارف في هذا الطريق ، والعقبات في هذا الطريق ، وينبغي أن تعرف نفسك أين أنت من هذا القرآن ؟ أين أنت من السنة ؟ هل أنت مطبق لها أو مقصر ؟ و ينبغي أن تعرف عيوب نفسك ، بهذه المعارف الخمس تكتمل القوة العلمية ، لذلك قال تعالى :
[ سورة الأنبياء : 25] العلماء قالوا : " نهاية العلم التوحيد ، و نهاية العمل التقوى " . دائماً هناك جانب نظري وجانب عملي :
[ سورة الأنبياء : 25] ( لاَ إِلَه إلا الله ) الجانب العلمي ، ]فَاعْبُدُونِ [الجانب العملي . 3 – طريق استكمال القوة العملية : إن القوة العملية الإرادية لا تحصل إلا بمراعاة حقوق الله سبحانه وتعالى ، والقيام بها ، إخلاصاً وصدقاً ، ونصحاً وإحساناً ، ومتابعة وشهوداً لمنته وفضله ، وشهوداً لتقصير العبد في أداء حق ربه ، فالعبد المؤمن يستحيي دائماً من أن يشهد عمله ، إنه يشهد فضل الله عليه ، المشكلة ـ وأتمنى أن أضع يدي عليها ـ هناك معرفة جيدة جداً ، إنسان حضر دروس علم ثلاثين سنة ، سمع تفسير القرآن بأكمله ، قرأ أحاديث رسول الله آلاف المرات ، واستمع إلى تفسيرها ، قرأ سير الصحابة الكرام ، امتلأ هذا الإنسان علماً ، الآن أين عمله ؟ حقيقة التلاوة : لذلك القرآن الكريم يصف الله عز وجل المؤمنين بأنهم ]يَتْلُونُه حَقَّ تِلاَوَتِهِ [، وحق تلاوة القرآن كما قال العلماء : " أن تقرأه قراءة صحيحة وفق قواعد اللغة أولاً ، ثم أن تقرأه إن أمكن ، والأفضل أن تقرأه وفق قواعد علم التجويد ، ثم أن تفهمه ، ثم أن تتدبره ، التدبر كلما قرأت آية تسأل نفسك أين أنا من هذه الآية ؟ هل أنا مطبق لها ؟ مع من ؟ ثم أن تطبقه ، قراءة وفق قواعد علم اللغة ، وقراءة وفق قواعد علم التجويد ، ثم فهم القرآن ، ثم تدبره ، ثم تطبيقه ، فلذلك لله عز وجل آيات كونية ، وآيات تكوينية ، وآيات قرآنية ، والإيمان بآيات الله هي الطريق الوحيدة السالكة إليه ، فتعرفه من خلقه ، وتعرفه من أفعاله ، وتعرفه من كلامه . ماذا فعلتَ فيما علمتَ ؟!! |
النقطة الدقيقة بعد أن عرفت ماذا فعلت ؟ ماذا عملت ؟ ما ربط الله فضله إلا بالعمل :
[ سورة الإسراء : 19] لذلك التمنيات بضائع الحمقى :
[ سورة النساء : 123] والعلم في الإسلام ليس هدفاً بذاته ، إنما هو وسيلة ، والعلم ما عُمل به ، فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى : و عالم بعلمه لم يعملن مُعذب من قبل عباد الوثن *** فأنت بحاجة إلى قوة علمية ، أن تعرف الله ، أن تعرف أسماءه ، أن تعرف صفاته ، أن تعرف الطريق إليه ، أن تعرف الصوارف في هذا الطريق ، وأن تعرف العقبات في هذا الطريق ، وأن تعرف نفسك ، وأن تعرف عيوبها ، ودائماً الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح . أيها الإخوة الكرام ، ورد في بعض الآثار القدسية : " إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وحكمته ، ولكن أنظر إلى همّه وهمّته . الكلام سهل ، إنسان آتاه الله ذاكرة قوية ، قرأ ، وحفظ ، وتكلم ، ونال مكانة في المجتمع ، الكلام سهل جداً ، ولكن أين أنت من هذا الكلام ؟ لذلك أكثر الناس الذين ينصرفون عن الدين بسبب أناس لهم مظهر ديني ، ولهم انتماء ديني ، وأساؤوا العمل ، من هنا ورد في الأثر : (( استقيموا يُستقم بكم )) . [ الطبراني في الكبير والأوسط والصغير عن سمرة ] إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وحكمته ، ولكن أنظر إلى همه و همته . قيمة المرء ما يطلب لا ما يحسِن : |
لكن الشيء الدقيق جداً أنه حينما يقال : قيمة كل امرئ ما يحسن ، الحقيقة أن قيمة كل امرئ ما يطلب ، لأن الفضل بيد الله ، الله عز وجل ذو الفضل العظيم ، لا تُكلف إلا أن تطلب ، إلا أن تطلب فقط :
[ سورة العنكبوت : 69] من هو البخيل ؟ الذي يعجز عن أن يسأل الله عز وجل . أيها الإخوة الكرام .
[ سورة التوبة : 111] الناس يعيشون الواقع الملموس لا الخبر القرآني : |
ثمة مشكلة ، أن الدنيا محسوسة ملموسة ، والآخرة خبر في القرآن ، ومشكلة الناس أن هناك واقعاً ، وأن هناك خبراً ، يعيشون الواقع ، تمرّ أمامه امرأة جميلة ، يرى بيتاً عظيماً ، يرى مركبة فارهة ، يرى بناء شامخاً ، يرى طعاماً طيباً ، هذه الدنيا محسوسة تحت سمعك وبصرك ، أما الآخرة فهي خبر في القرآن :
[ سورة الضحى : 4] العاقل تحكمه الأخبار القرآنية لا الواقع الملموس : فأنت كإنسان آتاك الله عقلاً يجب أن يحكمك الخبر ، لا أن يحكمك الواقع ، هذا شيء دقيق جداً ، كإنسان راكب دراجة وجد طريقين ، طريقا هابطا ، وطريقا صاعدا ، كل شيء في الطريق الهابط يدعوه إلى السير فيه ، وراكب دراجة ليس معه محرك ، النزول مريح جداً ، والطريق جميل ، ومعبَّد ، وفيه أزهار ورياحين ، فيه أطيار ، والطريق الصاعد متعب لراكب الدراجة ، وبه حفر ، وأكمات ، وعقبات ، فالإنسان من دون أن يقرأ ، ومن دون أن يقرأ خبر عن الله عز وجل يختار الطريق الهابط ، وهذا حال أهل الدنيا جميعاً ، يعيش أحدُهم الواقع ، يعيش ظرفه ، هناك لوحة عند مفترق الطريقين كتب عليها : " الطريق الهابط ينتهي بحفرة مالها من قرار ، فيها وحوش كاسرة وجائعة ، والطريق الصاعد ينتهي بقصر منيف هو لمن دخله " ، هذه اللوحة الصغيرة عبارة عن أربع كلمات تعكس لك قرارك ، فتأخذ قرارا مئة وثمانين درجة خلاف الأول ، فتسلك الطريق الصاعد ، وتَدَع الطريق الهابط ، هذا هو الفرق . هناك مركبة عامة ، والقصة قديمة ، تنطلق من ساحة المرجة ، وتتجه إلى المهاجرين ، تقف باتجاه الشرق ، في أيام الصيف الجانب الأيمن فيه شمس محرقة ، والجانب الأيسر ظل ظليل ، الإنسان يصعد إلى هذه المركبة ، فإذا عطّل عقله يجلس في الظل بداهة ، وإذا أعمل عقله يجلس في الشمس ، لأن هذه المركبة باتجاه الشرق خلال دقيقة واحدة تدور حول النصب التذكاري في المرجة ، فتنعكس الآية ، فبين أن تستمتع بالظل دقيقة ، وتحترق عشرين دقيقة ، وبين أن تتحمل الشمس دقيقة ، وتستمتع بالظل عشرين دقيقة فرق كبير . كنتُ أضرب مثلاً كثيراً ، إنسان ذاهب إلى حمص ليأخذ مبلغاً ضخماً له عند أحد الناس ، في أيام الشتاء الطريق مقطوعة ، بعد أن خرج من دمشق قرأ لوحة كتب عليها : " الطريق إلى حمص مقطوعة بسبب تراكم الثلوج في النّبك " ، أربع كلمات يعطونه قراراً معاكساً للسفر ، فيرجع ، لو أن دابة تمشي لا تقف إلا عند الثلج ، ما الذي يحكم الإنسان ؟ إما أن يحكمه الواقع فهو كالدابة ، وإما أن يحكمه النص فهو الإنسان . أنت إنسان مؤمن معك نص . من أهمِّ صفات المؤمنين : الإيمان بالغيب : |
أيها الإخوة الكرام ، مرة ثانية الدنيا محسوسة ملموسة تحت سمعك وبصرك ، بينما الآخرة وعد ، لذلك أول صفة للمؤمنين قال تعالى :
[ سورة البقرة ] فالذي يؤمن بالواقع مصيره إلى الهلاك ، والذي يؤمن بالغيب يؤمن بإخبار الله له ، فلذلك هذه الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، هذه الدنيا دار من لا دار له ، و لها يسعى من لا عقل له ، و الدليل أن الإنسان يسعى ، و يسعى ، و يسعى ، فإذا توقف قلبه فَقَدَ كل ما يملك في ثانية واحدة ، هذه الدنيا سباق الأحمق . تصور ألف سيارة في تسابق شديد ، أول سيارة وصلت للهدف فوقعت في حفرة ، والثانية وقعت ، والأخيرة وقعت ، والكبيرة وقعت ، والصغيرة وقعت ، والقديمة وقعت ، والحديثة وقعت ، ما هذا السباق ، الموت ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، ينهي غنى الغني ، وفقر الفقير ، ينهي ذكاء الذكي ، وغباء الغبي ، ينهي وسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، ما لم يكن لك هدف فهذا الطريق لا يقود إلى السعادة ، ولا إلى السلامة . يجب أن يكون لك هدف نبيل في الحياة : |
يجب أن يكون لك هدف ، ومع الأسف الشديد أجري استبيان فكانت النتيجة مؤلمة جداً ، أن سبعة وتسعين بالمئة من الناس ليس لهم هدف ، إما أن تخطط ، وإما أن يُخطط لك ، إما أن يكون لك هدف واضح ، وإلا خسرتَ ، والآية واضحة جداً :
[ سورة الملك : 22] الإنسان كله بضربات قلبه ، كل مكانة الإنسان بقطر الشريان التاجي ، كل مكانته وهيمنته وقوته بسيولة دمه ، كل مكانته بنمو خلاياه ، إذا نمت نمواً عشوائياً انتهت حياته ، إذا تجمد الدم في عروقه انتهت حياته ، إذا توقف قلبه انتهت حياته . لذلك أيها الإخوة الكرام ، الذي يجعل كل أهدافه في الدنيا مقامر ومغامر ، والذي نقل أهدافه إلى الآخرة هو العاقل ، لذلك قالوا : من قدّم ماله أمامه سَرَه اللحاق به . قد تجد إنساناً كل إمكاناته سخرها في الدنيا ، كلمة الموت ينخلع لها قلبه ، أما إذا كان لإنسان أعمال صالحة كثيرة فإنه لا يخشى شيئا ، وا كربتاه يا أبت ، قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه . كل بطولتك أن يكون الموت عرساً لك ، أن يكون الموت عيداً ، أن يكون الموت تحفة . حدثني طبيب قلب قال لي : و الله لما يأتيني مريض معه آفة قلبية أحس أنه مات قبل أن يموت من شدة الهلع ، لأن وضعَ البيض كله في سلة واحدة ، بينما المؤمن نقل اهتماماته إلى الآخرة ، فعنده شيء إذا لقي الله عز وجل ، لذلك أنا قرأت ودرست سبعين صحابياً ، والله الشيء الذي يلفت النظر أن هناك قاسماً مشتركاً واحداً بينهم ، وهو أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند ملاقاة ربهم . سيدنا سعد بن الربيع تفقده النبي عقب معركة أحد ، فلما أرسل بعض الصحابة إلى مكان المعركة الصحابي الجليل رآه بين القتلى ، لكنه يتحرك ، قال له يا : سعد ، أنت مع الأموات أم مع الأحياء ؟ قال له : مع الأموات ، ولكن أبلغ رسول الله مني السلام ، وقل له : جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، في أعلى درجات سعادته ، وأبلغ أصحابه الكرام أنه لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم و فيكم عين تطرف ، كان في أعلى درجات سعادته . لذلك أيها الإخوة الكرام ، هذه السلسلة من الدروس متعلقة بعلو الهمة :
[ سورة الأنعام : 162] و الحمد لله رب العالمين |
|
|